الدكتور محمد أبو هديب
في بلد مثل الأردن، حيث الموارد محدودة
والطموح كبير، لم يعد مقبولًا أن تبقى المشاريع الكبرى حبيسة غرف مغلقة أو رهينة
مديونية متراكمة. فتح الاكتتاب العام للمواطنين في المشاريع الاستراتيجية لم يعد
ترفًا اقتصاديًا، بل خيارًا سياديًا ذكيًا، إذا ما أُدير بعقل دولة وتحت رقابة
نزيهة لا تعرف المجاملة.
الاكتتاب الحقيقي ليس بيع وهم، ولا
تحميل المواطن مخاطر فشل الآخرين. الاكتتاب الحقيقي هو شراكة وطنية: مال من الناس،
إدارة محترفة، ورقابة صارمة لا تُساوم. وهو الطريق الأقصر لتحويل المواطن من متفرج
متشكك إلى شريك صاحب مصلحة، يراقب قبل أن يُصفّق، ويسأل قبل أن يموّل.
المشاريع الكبرى لا تنهض بالقروض
وحدها، ولا بالوعود. تنهض عندما تُدار بعقلية السوق، وتُراقَب بعين الدولة،
وتُموَّل بثقة الناس. والاكتتاب العام، بطبيعته، يفرض شفافية قاسية: بيانات مالية،
تقارير دورية، ومسؤولية مباشرة أمام آلاف المساهمين، لا أمام مكتب واحد.
لكن لنكن واضحين: اكتتاب بلا رقابة =
كارثة مؤجلة.
لهذا، لا مجال لنصف الحلول. المطلوب
رقابة مستقلة، صارمة، معلنة، تمتلك سلطة المحاسبة قبل أن يتفاقم الخطأ، لا بعد أن
يضيع المال. مجالس إدارة تُختار بالكفاءة لا بالواسطة، وإدارات تُحاسَب على الأداء
لا على النوايا.
الأردني ليس ضد الاستثمار، بل ضد
الغموض. ليس ضد المشاركة، بل ضد التهميش. وعندما يرى إطارًا واضحًا، وقوانين
عادلة، وحماية حقيقية لصغار المساهمين، سيضع ديناره بثقة، لأنه يعرف أن الدولة
حاضرة بالقانون، لا بالشعارات.
قطاعات مثل الطاقة، النقل، التعدين،
والصناعات الإنتاجية قادرة على استيعاب هذا النموذج، وتحقيق عوائد مستدامة، وتخفيف
الضغط عن الخزينة، دون التفريط بالسيادة أو المال العام.
الخلاصة واضحة وصريحة:
الاكتتاب العام في المشاريع الكبرى قوة
إذا ضُبط، وخطر إذا تُرك.
فإما أن نذهب به إلى أقصاه: شفافية
كاملة، رقابة صارمة، ومحاسبة حقيقية…
أو لا نذهب إليه أصلًا.
الدولة القوية لا تخاف من إشراك شعبها، والاقتصاد القوي لا يقوم إلا على ثقة الناس.




